الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وصورة زيادة الأصنام التتبيب، إنما يتصور: إما بأن تأهيلها والثقة بها والتعب في عبادتها شغلت نفوسهم وصرفتها عن النظر في الشرع وعاقتها، فلحق عن ذلك عنت وخسران، وإما بأن عذابهم على الكفر يزاد إليه عذاب على مجرد عبادة الأوثان.وقوله: {وكذلك} الإشارة إلى ما ذكر من الأحداث في الأمم، وهذه آية وعيد تعم قرى المؤمنين، فإن: {ظالمة} أعم من كافرة، وقد يمهل الله تعالى بعض الكفرة، وأما الظلمة- في الغالب فمعاجلون أما أنه يملى لبعضهم، وفي الحديث-من رواية أبي موسى- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة} الآية.وقرأ أبو رجاء العطاردي وعاصم الجحدري {ربُّك إذا أخذ القرى} وهي قراءة متمكنة المعنى ولكن قراءة الجماعة تعطي بقاء الوعيد واستمراره في الزمان، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي.وقوله تعالى: {إن في ذلك لآية} المعنى: أن في هذه القرى وما حل بها لعبرة وعلامة اهتداء لمن خاف أمر الآخرة وتوقع أن يناله عذابها فنظر وتأمل، فإن نظره يؤديه إلى الإيمان بالله تعالى، ثم عظم الله أمر يوم القيامة بوصفه بما تلبس بأجنبي منه للسبب المتصل بينهما، ويعود الضمير عليه، و: {الناس}- على هذا- مفعول لم يسم فاعله، ويصح أن يكون: {الناس} رفعًا بالابتداء و: {مجموع} خبر مقدم.وهذه الآية خبر عن الحشر، و: {مشهود} عام على الإطلاق يشهده الأولون والآخرون من الإنس والملائكة والجن والحيوان، في قول الجمهور، وفيه- أعني الحيوان الصامت- اختلاف، وقال ابن عباس: الشاهد: محمد عليه السلام، والمشهود يوم القيامة. وقوله: {وما نؤخره} الآية، المعنى وما نؤخر يوم القيامة عجزًا عن ذلك، لكن القضاء السابق قد نفذ فيه بأجل محدود لا يتقدم عنه ولا يتأخر. وقرأ الجمهور {نؤخره} بالنون. اهـ.
وقال آخر: قال الأخفش سعيد: حصيد أي محصود، وجمعه حصدى وحِصاد مثل مرضى ومِراض؛ قال: يكون فيمن يعقل حصدى، مثل قتِيل وقتلى.{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} أصل الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، وقد تقدّم في البقرة مستوفى.{ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ} بالكفر والمعاصي.وحكى سيبويه أنه يقال: ظلم إياه: {فَمَا أَغْنَتْ} أي دفعت.{عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ} في الكلام حذف، أي التي كانوا يعبدون؛ أي يدعون.{لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي غير تخسير؛ قاله مجاهد وقتادة.وقال لبيد: والتَّبَات الهلاك والخسران، وفيه إضمار؛ أي ما زادتهم عبادة الأصنام، فحذف المضاف؛ أي كانت عبادتهم إياهم قد خسَّرتهم ثواب الآخرة.قوله تعالى: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى} أي كما أخذ هذه القرى التي كانت لنوح وعاد وثمود يأخذ جميع القرى الظالمة.وقرأ عاصم الجحدري وطلحة بن مصرف {وَكَذَلِكَ أَخَذَ رَبُّكَ إِذْ أَخَذَ الْقُرَى} وعن الجحدريّ أيضًا {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} كالجماعة {إِذْ أَخَذَ القُرَى}.قال المهدويّ من قرأ: {وكذلك أخذ ربك إِذْ أخذ} فهو إخبار عما جاءت به العادة في إهلاك من تقدّم من الأمم؛ والمعنى: وكذلك أَخَذَ ربك من أخذه من الأمم المهلكة إذْ أخذهم.وقراءة الجماعة على أنه مصدر، والمعنى: كذلك أخذ ربك من أراد إهلاكه متى أخذه؛ فإذْ لما مضى؛ أي حين أخذ القرى؛ وإذا للمستقبل: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي وأهلها ظالمون؛ فحذف المضاف مثل: {واسأل الْقَرْيَةَ}، {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} أي عقوبته لأهل الشرك موجعة غليظة.وفي صحيح مسلم والترمذيّ من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ». ثم قرأ: {وكذلك أخْذُ ربك إذا أخذ القرى} الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب.قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً} أي لعبرة وموعظة.{لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة}.{ذلك يَوْمٌ}، ابتداء وخبر.{مَّجْمُوعٌ} من نعته.{لَّهُ الناس} اسم ما لم يسم فاعله؛ ولهذا لم يقل مجموعون؛ فإن قدرت ارتفاع {الناس} بالابتداء، والخبر {مَجْمُوعٌ لَهُ} فإنما لم يقل: مجموعون على هذا التقدير؛ لأن {له} يقوم مقام الفاعل. والجمع الحشر، أي يحشرون لذلك اليوم.{وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي يشهده البر والفاجر، ويشهده أهل السماء.وقد ذكرنا هذين الاسمين مع غيرهما من أسماء القيامة في كتاب التذكرة وبيناهما والحمد لله.قوله تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ} أي ما نؤخر ذلك اليوم.{إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} أي لأجل سبق به قضاؤنا، وهو معدود عندنا. اهـ.
{ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب}: الإشارة بذلك إلى ما تقدم من ذكر الأنبياء وقومهم، وما حل بهم من العقوبات أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى.ويحتمل أن يعني بالقرى قرى أولئك المهلكين المتقدم ذكرهم، وأن يعني القرى عمومًا أي: هذا النبأ المقصوص عليك هو ديدن المدن إذ كفرت، فدخل المدن المعاصرة.والضمير في منها عائد على القرى.قال ابن عباس: قائم وحصيد عامر كزغر وداثر، وهذا على تأويل عموم القرى.وقال قتادة وابن جريج: قائم الجدران ومنهدم، وهذا على تأويل خصوص القرى، وأنها قرى أولئك الأمم المهلكين، وقال الزمخشري: بعضها باق وبعضها عافى الأثر كالزرع القائم على ساقه، والذي حصد انتهى.وهذا معنى قول قتادة، قال قتادة: قائم الأثر ودارسه، جعل حصد الزرع كناية عن الفناء قال الشاعر: وقال الضحاك: قائم لم يخسف، وحصيد قد خسف.وقال ابن إسحاق: قائم لم يهلك بعد، وحصيد قد أهلك.وقيل: قائم أي باق نسله، وحصيد أي منقطع نسله.وهذا يتمشى على أن يكون التقدير ذلك من أنباء أهل القرى.وقد قيل: هو على حذف مضاف أي: من أنباء أهل القرى، ويؤيده قوله: وما ظلمناهم، فعاد الضمير على ذلك المحذوف.وقال الأخفش: حصيد أي محصود، وجمعه حصدى وحصاد، مثل: مرضى ومراض، وباب فعلى جمعًا لفعيل بمعن مفعول، أن يكون فيمن يعقل نحو: قتيل وقتلى.وقال الزمخشري: فإن قلت: ما محل هذه الجملة؟ قلت: هي مستأنفة لا محل لها انتهى.وقال أبو البقاء: منها قائم ابتداء، وخبر في موضع الحال من الهاء في نقصه، وحصيد مبتدأ خبره محذوف أي: ومنها حصيد انتهى.وما ذكره تجوز أي: نقصه عليك وحال القرى ذلك، والحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين أي: نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحال يشاهدون فعل الله بها.وما ظلمناهم أي: بإهلاكنا إياههم، بل وضعنا عليهم من العذاب ما يستحقونه، ولكن ظلموا أنفسهم بوضع الكفر موضع الإيمان، وارتكاب ما به أهلكوا.والظاهر أنّ قوله: فما أغنت، نفي أي، لم ترد عنهم من بأس الله شيئًا ولا أجدت.يدعون حكاية حال أي: التي كانوا يدعون، أي يعبدون، أو يدعونها اللات والعزى وهبل.قال الزمخشري: ولما منصوب بما أغنت انتهى.وهذا بناء على أنّ لما ظرف، وهو خلاف مذهب سيبويه، لأنّ مذهبه أنها حرف وجوب لوجوب.وأمر ربك هو عذابه ونقمته.وما زادوهم عومل معاملة العقلاء في الإسناد إلى واو الضمير الذي هو لمن يعقل، لأنهم نزلوهم منزلة العقلاء في اعتقادهم أنها تنفع، وعبادتهم إياهم.والتتبيب التخسير.قال ابن زيد: الشر، وقال قتادة: الخسران والهلاك، وقال مجاهد: التخسير، وقيل: التدمير.وهذه كلها أقوال متقاربة.قال ابن عطية: وصورة زيادة الأصنام التتبيب، إنما هو يتصور بأنّ تأميلها والثقة بها والتعب في عبادتها شغلت نفوسهم عن النظر في الشرع وعاقبته، فلحق من ذلك عقاب وخسران.وأما بأن عذابهم على الكفر يزاد به عذاب على مجرد عبادة الأوثان.{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} الشقاء نكد العيش وسوؤه.يقال منه: شقي يشقى شقاء وشقوة وشقاوة والسعادة ضده، يقال منه: سعد يسعد، ويعديان بالهمزة فيقال: أشقاه الله، وأسعده الله.وقد قرئ شقوا وسعدوا بضم الشين والسين، فدل على أنهما قد يتعدّيان.ومنه قولهم مسعود، وذكر أنّ الفراء حكى أن هذيلًا تقول: سعده الله بمعنى أسعده.وقال الجوهري: سعد بالكسر فهو سعيد، مثل سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود.وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري: ورد سعده الله فهو مسعود، وأسعده الله فهو مسعد.{وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد}: أي ومثل ذلك الأخذ أخذ الله الأمم السابقة أخذ ربك.
|